الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

الحكم .... بين الفكر البشري وشريعة الخالق


الحكم .... بين الفكر البشري وشريعة الخالق

تعرف الحكومة بأنها النظام الذى يحكم مجموعة من الأفراد تعيش فى وحدة سياسية محددة . وهدف الحكم حماية حقوق كل فرد من أفراد المجموعة ، وذلك يتطلب قيام الحكومة بالواجبات وممارسة الأنشطة التى تمكنها من تحقيق الغاية التى أنشىء النظام من أجلها ، والأصل أنه لا يجوز لها الخروج عن تفويض المجتمع لها .

تختلف أنظمة الحكم فى العالم ، ولكن هيكلية الأنظمة على اختلافها تقوم على تقسيم السلطات إلى سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية ، إلا أن فصل السلطات لم يتحقق فى الواقع العملي إذ غالباً ما تسيطر السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والتنفيذية ، كما أن إختيار قيادات السلطات لا يعتمد على معيار الكفاءة والأمانة .
مظاهر عدم الفصل بين السلطات
1.      فقد السلطة التشريعية فاعليتها فى التشريع والمراقبة
·         إهمال أهمية عامل التخصص فهناك طبيب يدلى بصوته لإقرار ميزانية الدولة وصانع يشارك فى إجازة خطط الإصلاح الزراعي وتاجر يناقش مسائل الأمن القومي .
·         تتحكم السلطة التنفيذية فى إصدار القوانين ، فهى التى تقوم بصياغتها ثم تعرض على السلطة التشريعية لإقرارها.
·         غالباً تسيطر السلطة التنفيذية  على أجهزة الرقابة والمحاسبة .
2.      فقد السلطة القضائية فاعليتها
·         وزير العدل أحد أعضاء قيادة السلطة التنفيذية هو رئيس السلطة القضائية .
·         المدعى العام وأجهزة الأمن الداخلي هو أحد أعضاء فى أجهزة السلطة التنفيذية .
·         تخضع تعيينات موظفى السلطة القضائية لضوابط تعيينات الخدمة المدنية التابعة للسلطة التنفيذية .

اختيار قيادات السلطات
يتم اختيار قيادات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بالتعيين أو بالانتخاب .
1.      إختيار القيادات بالتعيين غالباً ينحصر ضمن نطاق من يعرفهم ، أو بتوصية من يعرفهم ، صاحب السلطة فى التعيين.
2.       إختيار القيادات بالانتخاب يحصر الاختيار فى المنتخبين من المرشحين ، ويحصر المرشحين فى من تدعمهم حملات انتخابية تتعاظم كلفتها فلم يعد لذوى الكفاءات غير المدعومين مجال للترشح فى الإنتخابات .


تداخل السلطات يعقد أمر تحديد المسؤولية ويساعد على التهرب من المحاسبة فيدعم الفساد فى المال العام ويمكن القيادات فى السلطة من توجيه السياسات لتبادل المنافع والمصالح الخاصة بدل توجيهها لتحقيق المصلحة العامة . يعكس اختيار القيادات بالتعيين توجهات ومصالح أصحاب السلطة فى التعيين . يعكس اختيار القيادات بالانتخاب توجهات قيادات الأحزاب وتترجم مصالح ممولى الإنتخابات . أصبح الاقتصاد يدار لصالح الفئة المسيطرة على السلطة والمال ، فاتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء .

بدعوى العمل على الحد من تركز الثروة ، عمدت الحكومات إلى تجاوز نطاق وظيفتها التى كلفت بها . واختلفت مظاهر التجاوز فى المجال الاقتصادي باختلاف أنظمة الحكم وباختلاف الأنظمة الاقتصادية المتبعة ؛
·         بينما واجب الحكومة المحافظة على حق الفرد فى الملكية ، تميزت الأنظمة الاشتراكية بتملك عوامل الإنتاج من قبل الدولة أو تشريع تمليكها للطبقة العاملة .
·         بينما وظيفة الحكومة حفظ الحقوق وليس تقنينها ، اعتبرت الأنظمة الإقطاعية بأشكالها المختلفة موارد الدولة ملك لها وبقية أفراد المجتمع خدم عندها .
·         بينما واجب الحكومة المحافظة على الحقوق وليس منحها ، فقد عمدت الأنظمة الرأسمالية إلى تقديم خدمات الرعاية الإجتماعية مصحوبة بتضخم الإنفاق الحكومي وزيادة الفساد فى المال العام .
·         بينما وظيفة الحكومة تقتضى المحافظة على المال العام بوصفه ملكاً مشاعاً لأفراد الدولة يستثمر لصالحهم ، اعتبرت الحكومات المال العام ملكاً لها وحصيلة استثماره مورداً لها تتصرف فيه كيفما تشاء .

من أجل تغطية النفقات اللازمة لقيام الحكومة بالواجبات التى اتسع نطاقها تعتمد الحكومات على مصادر دخل أهمها :
·         ايرادات استثمار المال العام .
·         متحصلات الضرائب والرسوم والغرامات .
·         الاستدانة فى حال عدم كفاية الإيرادات ، مما يضطر الحكومة لفرض المزيد من الضرائب لتسديد الدين وفوائده .

النظام الديمقراطي
قدمت الديمقراطية على أنها نظام يحقق حكم الشعب لنفسه من خلال انتخابه ممثليه . فاستهوى شعار "حكم الشعب لنفسه" شعوب العالم ، دون أن تتنبه إلى أن الديمقراطية بنيت على شعار متناقض فحكم ممثلى الشعب للشعب يتناقض مع حكم الشعب لنفسه وينطوى على تسليم الناخب بأن يحكمه غيره ، وما التناقض إلا لتحكم الرأسمالية الشعب .

مع استجابة الشعوب للديمقراطية تتشكل أحزاب يستمد كل منها قوته من قاعدة شعبية تلقى بأوراقها فى صناديق الانتخابات لصالح قيادة الحزب . الحزب الفائز يحكم ممثلاً لقاعدة شعبية محدودة ، الحزب الخاسر لا يحكم فيستبعد فئة من الشعب . لو فاز حزب فى الانتخابات بنسبة 50% من أصوات الناخبين وكانت أصوات الناخبين تمثل 50% من أصوات من لهم حق فى الانتخاب ، فإن الحزب الفائز يمثل فعلياً  25% من أصوات من لهم حق فى الانتخاب وبذلك فإن 75% من الشعب لا يحكم نفسه ، وإنما تحكمه أقلية .
أن يتنافس عام 2012 مرشحين فقط لانتخابات الرئاسة فى الولايات المتحدة الأمريكية التى يصل عدد سكانها 300 مليون نسمة يؤكد أن الفوز فى الانتخابات تحكمه مجموعة من العوامل أهمها الحملات الدعائية ، فمن البديهي أن يكون ولاء القيادات المنتخبة لممولى الحملات الانتخابية . وهكذا تتمكن الرأسمالية من استغلال الديمقراطية لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة ، فتحول حكم الشعب لنفسه إلى حكم الرأسمالية للشعب .

بينما يفترض أن يترجم حكم الشعب لنفسه فى توافق أفراد المجتمع على تحقيق المصلحة العامة ، فإن الحزبية تكرس الخلاف فى وجهات النظر بحسب مصلحة قيادات كل حزب .

أحكام الإسلام فى الحكم
إن وجود الحكومة هو نتاج توافق إجتماعي على تشكيل نظام معين للقيام بوظيفة الحاكم . لم يحدد القرآن الكريم تسمية معينة للحاكم كأن يكون ملكاً أو رئيس جمهورية أو محافظ أو وزير ، وإنما اهتم بوضع أحكام تتعلق بنظام الحكم وبطانته وحقوق الحكومة وواجباتها . 
تحريم الحزبية
"فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون" (المؤمنون 23 : 53) .
حزبية الديمقراطية تكرس الخلاف فى وجهات النظر بحسب مصلحة قيادات كل حزب .
مشروعية التوافق
"واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران 3 : 103) .
لا معارضة ولا موالاة ، وإنما تبنى المجتمعات بالتوافق .
مشروعية الشورى
"وأمرهم شورى بينهم" (الشورى 42 : 38) .
تختلف الشورى عن الديمقراطية ، إذ أنها لا تقوم على التعيين ولا على التمثيل عبر الانتخاب ، وإنما على تشاور أصحاب المعرفة للوصول إلى قرار ، فهي كنظام وفق النص القرآني تستلزم :
·         المعرفة : كفاية المعرفة ، العلمية والعملية ، لدى المستشار فى موضوع المشورة ، مع مراعاة أن كفاية المعرفة كفاية تخصصية ، إذ لا يمكن أن يتوفر الفرد كفاية معرفة فى جميع المجالات والعلوم بسبب محدودية العقل البشري .
·         التشاور : إشراك جميع من لديهم كفاية فى المعرفة لمناقشة موضوع المشورة ، وإجماع جميع أو غالبية المشاركين على قرار فى موضوع المشورة . اشراك ذوى الكفاية فى المعرفة لا يخضع لقرار تعيين أو إنتماء حزبي أو تعاطف قبلي أو طائفي أو دعم مادي .
·         القرار : أن يكون القرار ملزماً فمفهوم الشورى فى الآية الكريمة يختلف عن المفهوم المعاصر للاستشارة والذى يكون فيه القرار لمن استشار وليس للمستشار .

ويمكن ترجمة نظام الشورى فى عالمنا المعاصر عملياً عن طريق التصنيف المهنى لكل بالغ عاقل فى المجتمع لينتخب أصحاب كل مهنة من بينهم أصحاب الكفاية فى المعرفة لتمثيلهم بالتدرج فى هيكل هرمي فى مجلس شورى وفى لكل سلطة من سلطات الحكم . مجلس الشورى يراقب أعمال سلطات الحكم ويراقبها ويحاسبها وهو مسؤول أمام الحاكم والحاكم مسؤول أمام الشعب .

واجبات الحكومة :
تلتزم الحكومة بممارسة الأنشطة الإنتاجية اللازمة لتقديم السلع والخدمات التى تقتضيها وظيفتها ؛
1.      الحكم بالعدل
"وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"  (النساء 4 :58) .
هدف الحكم  تحقيق العدل . العدل هو حفظ حق كل فرد من أفراد المجتمع . ويقتضى حفظ الحقوق قيام الحكومة بمجموعة من الوظائف :
·         الرقابة لتجنب التعدى على الحقوق .
·         الدفاع لحماية الحقوق من أي اعداء خارجي .
·         الأمـن لحماية الحقوق من التعدى الداخلي .
·         القضاء لرد الحقوق المغتصبة لأصحابها . يتطلب ذلك قيام الحكومة بوضع معايير للحكم فى المنازعات وتحديد الأحكام وفق قانون القصاص الذى فرضه الخالق "ولكم فى الحياة قصاص يا أولى الألباب لعلكم تتقون" (البقرة 2: 179) .
·         التخطيط لحفظ حقوق أفراد المجتمع فى المال العام . "عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً أسمعه يقول : المسلمون شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار" (سنن أبى داود) .
2.      حماية الأنظمة الطبيعية
"ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها" (الأعراف 7 : 56) .
تشمل الأنظمة الطبيعية الأنظمة التى وضعها الخالق مثل أنظمة البيئة التى تتحكم فى مسيرة الكائنات ونظام السوق الذى تتحدد الأسعار فيه بنتيجة تفاعل حر بين عاملي الطلب والعرض .
3.      إعادة توزيع الدخول
 "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" (التوبة 9 : 103) .
كفاية الدخل لتغطية تكاليف المعيشة حق لكل فرد وتأمين كفايته واجب على ذوى الدخول الفائضة عن كلفة المعيشة . "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" (الذاريات 51 : 19) ، وقد شرع الخالق حماية الحق فى كفاية الدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية ، فألزم الحكومة بفرض ضريبة (الزكاة) على كل ذى سعة لتغطية العجز فى دخول الآخرين .

حقوق الحكومة :
مقابل قيام الحكومة بأداء واجباتها ، فمن حقها الحصول على كلفة السلع والخدمات التى تقدمها ومن حق العاملين فيها الحصول على أجور عادلة . تبين الآية الكريمة أن من يقع عليهم واجب تغطية نفقات الجهاز الحكومى هم أفراد المجتمع بوصفهم المنتفعون من وجودها ، فلا يجوز أن ينتفع أحد بالحماية على حساب آخر ولا شيء بدون مقابل . ومن العدل أن يتقاسم أفراد المجتمع كلهم دون استثناء كلفة هذا النظام الذى يقوم لحماية حقوقهم  "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم 53 : 39) .

فى ضوء ما تقدم ، يتضح أن نظام الحكم فى الإسلام وفق ما ورد فى آيات القرآن الكريم له معالمه الخاصة التى تميزه  عن الأنظمة الوضعية ؛
·         يحقق أسلوب الحكم بالشورى المشاركة الفعلية المباشرة لأفراد المجتمع فى الحكم كلٍ فى تخصصه ، فقيادات الحكم يتم اختيارها من قبل أفراد المجتمع باعتماد الكفاءة والأمانة ، ويتحمل أفراد المجتمع نتيجة الأداء ، ويتم تجنب تسلط القيادات فى ممارسة الحكم .
·         يحقق توازناً بين الإنفاق الحكومي وإيرادات الحكومة ، فبينما تلتزم الحكومة بحماية حقوق أفراد المجتمع ، يلتزم الأفراد بدفع كلفة الخدمات العامة ، فتتجنب الحكومة الإستدانة من الغير أو فرض الضرائب على أفراد المجتمع .
·         يؤكد نظام الحكم فى الإسلام على ملكية أفراد المجتمع للمال العام ، فلا يعتبر المال العام ملكاً للحكومة وإنما لأفراد المجتمع ، ولا تعد إيراداته جزءاً من إيرادات الحكومة ، وإنما إيرادات لأفراد المجتمع .
·         تلعب الحكومة دور الوسيط لإعادة توزيع الثروة فتحصل الزكاة من الأثرياء لتوزعها على الفقراء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق