الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

السوق .... بين الفكر البشري وشريعة الخالق


السوق ......... بين الفكر البشري وشريعة الخالق

يتم تبادل الموارد فى السوق . يقصد بالسوق مجموعة العناصر التي تتشكل لإتمام التعاقدات الخاصة بتبادل المنتجات وتحديد الأسعار . يختلف تأثير عناصر السوق على تحديد سعر المنتج باختلاف الزمان والمكان وطبيعة المنتج المعروض وحجم الطلب والعرض الآني والمتوقع .

فى الاقتصاديات الطبيعية الخالية من التدخلات البشرية تعرض أسعار المنتجات من قبل البائعين بما يعادل المجموع الكلي للتكلفة الحقيقية لمكونات السلعة من مواد وعمل بالإضافة إلى ربح للبائع مقابل تحمل مخاطر الاستثمار . يتميز نظام السوق الطبيعي بمقدرته على التصويب التلقائي لتحقيق عدالة الأسعار المعروضة ، إذ يوفر الظروف الملائمة لتحديد الأسعار بالشروط التى تعكس تراضي أطراف التبادل من خلال حرية التفاعل بين عاملي الطلب والعرض فى ضوء الأسعار المعروضة ، فيتقلب كلاهما إلى أن يتحقق التوازن بينهما عند السعر العادل المناسب . وبالمثل تعبر الأجور فى سوق العمل عن العائد الذي تحدده المنافسة مقابل الجهد المبذول .

أشار آدم سميث فى كتابه " ثروة الأمة" الصادر عام 1776 إلى نظام التسعير الطبيعي باعتباره " اليد الخفية" ، وأضاف ؛ "إذا حدث نقص فى سلعة ما ، فإن سعرها سيرتفع محفزاً على إنتاجها ومسبباً انخفاض استهلاكها ، فيكون ذلك علاجاً لنقص المعروض منها . إن تزايد حدة المنافسة بين الصانعين وزيادة العرض أيضاً يتسبب فى إنخفاض سعر المنتج إلى تكلفة إنتاجه مضافاً إليها ربح بسيط ليشكلا سعراً طبيعيا" . ويعتقد سميث أنه "إذا خلا الدافع البشري من الأنانية ، فإن حرية السوق تكون فى مصلحة المجتمع بكامله" .

الزيادة الطبيعية فى سعر منتج (أو بعض منتجات) ليس لها تأثير يذكر على المستوى العام للأسعار لعدة أسباب منها :
·         إن زيادة سعر منتج ما يشجع المنتجين على زيادة العرض فينخفض السعر ، كما يشجع انخفاض السعر المستهلكين على زيادة الطلب فيرتفع السعر ، ويترتب على التفاعل بين الطلب والعرض فى السوق الطبيعي الحر أن يعود السعر إلى نقطة التوازن حيث يتلاقى الطلب والعرض .
·         أنه يترتب على تعدد المنتجات وتنوعها تعويض ارتفاع أسعار بعض المنتجات بانخفاض أسعار منتجات أخرى .
·         أن الاكتشافات المستمرة والتطور التقني المتلاحق يقدم للسوق منتجات جديدة وأخرى بديلة وطرق انتاج مستحدثة تدعم خفض الأسعار .
·         أن المنافسة الحرة النظيفة تفرض أن يكون هامش الربح ضمن حدود معقولة .

رغم أن حرية السوق تمثل أحد أهم شعارات الرأسمالية ، إلا أنه لا يوجد حالياً سوق حرة فى العالم بسبب التدخل بفرض معوقات لحركة السوق الطبيعي عن طريق التأثير فى الأسعار أو الطلب أو العرض ، ومن هذه المعوقات :
·         اصدار التشريعات لتخفيض اسعار المنتجات بحجة الحد من ظاهرة الجشع .
·         التدخل لتخفيض أجور العمال ضمن سياسة التقشف لتخفيض الدين العام .
·         التدخل لزيادة أجور العمال لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة .
·         فرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة ، وكذلك الضرائب المستترة التى تعرف بضريبة التضخم .
·         إجازة إحتساب كلفة التمويل ضمن تكاليف الإنتاج باعتبارها عائداً من عوائد عوامل الإنتاج .
·         إجازة الاحتكارات بدعوى جني مزايا التخصص .
·         إجازة المضاربات فى أسواق السلع ، حيث تتحدد الأسعار بنتيجة تفاعل الطلب والعرض على عقود بيع وشراء وهمية لا يتم فيها عملياً تسليم أو استلام البضائع موضوع التعاقد .
·         تنامى الفساد فى المال العام والخاص ، فتضاف كلفة الفساد إلى أسعار المنتجات .
·         استغلال الوسائل الإعلامية والدعائية للتأثير على سلوك المستهلكين وتوجيه الطلب على المنتجات .
نتيجة للتدخل البشري فى نظام السوق الطبيعي فإن أسعار المنتجات من سلع وأصول وخدمات ، بوجه عام ، تزيد كثيراً على الأسعار العادلة ، كما ينتفى مفهوم الأجور كعائد مقابل إنتاجية .

أحكام تبادل الموارد فى الإسلام
يتم تبادل المنتجات من خلال إجراء معاملات بيع فى السوق .
أولاً : أحكام البيــع
البيع هو المرحلة الأخيرة لأي نشاط إنتاجي . يقصد بالبيع تنازل البائع عن حقه فى ملكية المبيع بالبيع النقدي أو الآجل ، أو عن حقه فى الانتفاع بالمبيع بتأجيره ، أو السماح للغير باستعماله مقابل رسم معين أو بأية طريقة قانونية للتنازل . ويعتبر العمل من بيع المنافع فهو بيع جهد عضلي أو ذهني مقابل أجر .
·         مشروعية البيع
يستمد البيع مشروعيته من مشروعية النشاط الإنتاجي " إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم" (النساء 4 :29) ، فالنشاط الانتاجي ينطوى على بيع إذ يمثل البيع المرحلة الأخيرة من العملية الإنتاجية.
·         مشروعية البيع الآجل
 "ذلك بأنهم قالوا إنما البيعُ مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة 2 : 275) ، من الواضح أن المقصود بالبيع فى هذه الآية الكريمة هو البيع الآجل إذ ينشأ الالتباس المشار إليه عند النظر إلى التماثل بين ربح الأجل وربا الأجل فكليهما عائد ، وقد أحل الله ربح الأجل فى البيع بينما حرم ربح الأجل فى الاقتراض .
·         مشروعية بيع المنفعة - إيجار الأعيان (باب الإجارة فى البيوع)
أجمعت الأمة الإسلامية على جوازها والتعامل بها زمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الاجماع المعتبر . (الطوسي ، كتاب الخلاف 2 / 709) .
·         مشروعية بيع المنفعة - أجرة العمل (باب الإجارة فى البيوع)
"فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن" (الطلاق 65 : 6) .
"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .. رواه ابن ماجة والترمزي والطبراني) .

ثانياً :أحكام الســوق
يقصد بالسوق المكان والزمان الذى يتم فيه البيع . يمثل السوق الطبيعي أحد الأنظمة التى خلقها الله سبحانه وتعالى هداية للبشر ، فهو يمثل إطاراً مفروضاً لإتمام المبادلات وتسعير المنتجات ، فلا يجوز للمخلوق أن يفسد نظاماً خلقه الله سبحانه وتعالى . يتميز نظام السوق الطبيعي بالمرونة والمقدرة التلقائية للتكيف مع تغير المعطيات والظروف فيستمر تغير الطلب والعرض معبراً عن تقلب السعر للوصول فى نهاية المطاف إلى سعر معين عادلاً بحكم المنافسة فى السوق .
·         تحريم التدخل البشري فى السوق الطبيعي
"ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها" (الأعراف 7 : 56)
يحرم الإسلام جميع أشكال التدخل المباشر وغير المباشر للتحكم فى الاسعار ، سواء كان ذلك عن طريق تسعير المنتجات أو إفساد السوق أو عن طريق رفع الأسعار بتكاليف التضخم (الضرائب ، الربا ، عائد المضاربات ، الكسب غير المشروع ، الزيادة فى أرباح المستثمرين بسبب الاحتكار والتضخم) .
·         تحريم التسعير
"قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة فى دم ولا مال" (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  ... سنن أبي داود – البيوع) .
·         تحريم التضخم المفتعل
"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (البقرة 2 :188) .
التضخم هو أكل مال بالباطل لأنه يمكن فئة قليلة من الأثرياء والمؤسسات من تحقيق مكاسب على حساب عامة المستهلكين ، وباعتباره إرتفاعاً متعمداً للأسعار فإنه يشكل تدخلاً بشرياً فى التسعير ، ومع تحريم تكاليف التضخم تنتفى تلقائياً الزيادة فى أرباح المستثمرين على حساب المستهلكين "كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم" ( الحشر : 7) .

·         تحريم البيوع التى تفسد السوق
 "والله لا يحب الفساد" (البقرة 2 : 205) .
يحرم الإسلام جميع أشكال الفساد ، وتفعيلاً لمباديء التراضى والعدل واجتناب المحرمات ، فقد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعض أنواع البيوع مثل :
§         بيع الغرر (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  ... سنن أبي داود – البيوع)  وهو كل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم أو معجوز عنه غير مقدور عليه ، مثل بيع اللبن فى الضرع .
§         بيع النجش (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  ... موطأ مالك – البيوع) ويقصد بالنجش الخديعة مثل زيادة سعر السلعة من قبل شخص لا حاجة له فى شرائها ولكن بقصد إغراء غيره لشرائها بسعر مرتفع .
§         بيع العينة (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .. سنن أبي داود – البيوع) وهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها البائع نقداً بثمن أقل لأن ذلك ينطوى على حاجة للإقتراض وفرق السعر هو ربا .
§         بيع المضطر (حديث الرسول صلى الله عليه وسلم  .. سنن أبي داود – البيوع) حيث يضطر شخص إلى البيع بالوكس ، أى بسعر متدني ، للضرورة ، فسبيله أن يُقرض إلى ميسرة .

خلاصة القول ، أن الله عز وجل خلق الإنسان وخلق له نظام السوق الطبيعي ، لذلك فإنه يقع على الدولة والبشر واجب التقيد بأحكام الخالق التى تفرض تبادل الموارد فى اطار النظام الموضوع ، كما يقع عليهم مسؤولية تجنب التدخل فى مجريات السوق وعوامله من خلال الرقابة الفعالة لتوفير مناخ الحرية والمنافسة النظيفة فى السوق .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق